بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فهذه كلمات مختصرة في آداب المشي إلى المساجد، كتبتها تذكرة لنفسي ولإخواني المسلمين، وقد قال الله عز وجل: ]وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ[، وسميتها:
المشي إلى المساجد: آداب وآثار
وأعني بالآثار: ما يترتب على التمسك بتلك الآداب من الأخلاق الجميلة والعوائد الجزيلة في الدنيا والآخرة.
وأسأل الله عز وجل أن يعم بها النفع، وأن يتقبلها بقبول حسن إنه سميع مجيب، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
تمهيد
لا يخفى عليك أخي المسلم أهمية المساجد وعظيم قدرها؛ إذ هي بيوت الله، التي قال فيها عز وجل: ]فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ[[سورة النور: 36-38].
وقال تعالى: ]وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا[[سورة الجن: 18].
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على فضل المساجد وعلوِّ مكانتها في الإسلام.
ومما يدل على أهميتها أيضًا أن رسول الله r لما قدم المدينة مهاجرًا إليها كان أول عمل قام به r هو بناء المسجد، وقد ورد عنه r أحاديث كثيرة في أهمية المساجد والعناية بها يطول المقام بذكرها، منها قوله r: «أحب البلاد إلى الله مساجده» رواه مسلم([1])، وقوله r: «من بنى مسجدًا لله تعالى بنى الله له بيتًا في الجنة» رواه مسلم([2]).
فحري بك أخي المسلم أن تعرف للمساجد قدرها، وأن تعظمها حق تعظيمها، وذلك بعمارتها بذكر الله عز وجل، والتأدب فيها بالآداب الحميدة التي شرعها لنا رسول الله r، وحث على التمسك بها في المساجد عامة، ويدخل في ذلك دخولاً أوليًا الحرمان الشريفان: المسجد الحرام والمسجد النبوي الذين شرفهما الله عز وجل، وجعل فيهما من الفضائل والخصائص، ما لم يكن لغيرهما.
فعليك أخي المسلم، يا من يسر الله عز وجل لك الوصول إليهما، ووفقك الله للصلاة فيهما، أن تعرف لهما حقهما، وتحسن الأدب في رحابهما ]وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[[سورة الحج: 32].
والآداب الآتي ذكرها منها ما ينبغي فعلها في المنزل؛ استعدادًا للخروج إلى المسجد، ومنها ما يتعلق بالمشي في الطريق إلى المسجد، ومنها ما يتعلق بدخول المسجد والمكث فيه، وإليك التفصيل:
* * * *أولاً: في المنزل قبل الخروج
1- إخلاص النية لله عز وجل؛ إذ عليها يتوقف قبول الأعمال، وعلى مدارها يكون الثواب والعقاب، وقد قال رسول الله r في الحديث الصحيح: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى...» الحديث([3]).
وقال r: «من أتى المسجد لشيء فهو حظه» رواه أبو داود بإسناد حسن([4]).
فعليك يا أخي توطين نفسك أن يكون خروجك إلى المسجد استجابة لأمر الله عز وجل، ورغبة فيما عنده من الأجر والثواب، مستحضرًا قوله r: «صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين ضعفًا، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة...» أخرجه البخاري ومسلم([5]).
بل ينبغي أن ترتقي همتك إلى أكمل من ذلك، فتسعى إلى أن تكون من السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله الذين أخبر عنهم r، فذكر منهم: «ورجل قلبه معلق في المساجد» رواه البخاري ومسلم ([6]).
ومعناه: شدة حبه لها وملازمته لصلاة الجماعة فيها.
2- الحرص على النظافة في الجسد والثياب، والأصل في هذا قوله تعالى: ]يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ[[سورة الأعراف: 31].
قال ابن كثير رحمه الله: «ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنة يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك»([7]).
وقد أمر النبي r بصون المساجد عن الروائح الكريهة، فقال r: «من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم» رواه مسلم([8]).
وقال r: «من أكل من هذه البقلة فلا يقربن مساجدنا حتى يذهب ريحها»، يعني: الثوم. رواه مسلم([9]).
ويقاس على ذلك كل رائحة كريهة تؤذي المصلين كالدخان وغيره.
فعلى المسلم أن يتفقد بدنه وثيابه ويزيل كل رائحة كريهة، لا سيما بعد القيام من النوم، وعند تعاطي أو استعمال ما له رائحة كريهة كالبصل ونحوه. ويُعين على ذلك استعمال الطيب والسواك.
3- ومن تمام الزينة أن يلبس المسلم الملابس المحتشمة الساترة، البعيدة عن مشابهة الكفار وأهل الفسق والطيش، لا سيما طلبة العلم الذين أكرمهم الله عز وجل بسلوك طريق العلم الشرعي؛ فإن عليهم أن يكونوا قدوةً للناس في ملبسهم ومشيهم وكل أمر من أمورهم.
4- وهمسة حانية أقدمها لإخواني أصحاب المهن – الذين تضطرهم طبيعة عملهم إلى اتساخ ملابسهم – أن يجعلوا لهم ثوبًا خاصًا يلبسونه عند الذهاب إلى الصلاة؛ امتثالاً لأمر الله عز وجل بأخذ الزينة عند كل مسجد، واجتنابًا لمضايقة إخوانهم الآخرين في الصلاة.
5- على المسلم الحريص على الخير أن يبادر إلى الاستعداد للصلاة بالوضوء والتهيؤ لها قبل دخول وقتها، حتى إذا حان وقتها خرج المسجد مبكرًا.
* * * *
ثانيًا: في الطريق إلى المسجد
1- يستحب لك أخي المسلمحين خروجك من بيتك للصلاة وغيرها أن تدعو الله عز وجل بالأدعية المأثورة الثابتة عن النبي r، منها ما رواه الترمذي وغيره عن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله r: «من قال – يعني إذا خرج من بيته -: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله. يقال له: كفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان»، قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح غريب...)([10]).
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ما خرج النبي r من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: «اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أَزل أو أُذل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي» رواه أبو داود والترمذي وقال: (هذا حديث حسن صحيح)([11]).
فاحرص يا أخي على هذه الأدعية يحفظك الله عز وجل ويقيك ويتنحى عنك الشيطان، فإن الدعاء مفتاح كل خير.
2- ينبغي للمسلم أن يذهب إلى الصلاة في المسجد بسكينة ووقار،بحيث يمشي مشيًا معتدلاً، غاضًا بصره، حافظًا جوارحه عن الحرام، ولا يشبك بين أصابعه، يمشي وهو يستشعر أنه في صلاة، وأن خطواته محسوبة له في ميزان حسناته، قال رسول الله r: «إذا ثوب ([12]) للصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا، فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة» رواه مسلم([13]).
وقال رسول الله r: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟». قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط» رواه مسلم ([14]).
وروى مسلم أيضًا عن أبي قتادة t قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله r فسمع جلبة، فقال: «ما شأنكم؟». قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: «فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما سبقكم فأتموا»([15]).
وروى ابن خزيمة والحاكم من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: «إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع، فلا يقل هكذا»، وشبك بين أصابعه.
قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)، ووافقه الذهبي وناصر الدين الألباني ([16]).
3- ومما يعين على المشي إلى الصلاة بسكينة التبكير إليها؛ فإن الإنسان إذا خرج مبكرًا يمشي وهو هادئ النفس، مطمئن البال، رابط الجأش، بعيدًا عن الخفة والطيش.
أما إذا خرج متأخرًا فإنه يخرج في عجلة من أمره وهو متوتر الأعصاب، مضطرب النفس، سريع الغضب، غير متزن في مشيته، ومع ذلك يفوته بعض الصلاة، وما أدركه منها فإنه يُدركه وهو ثائر النفس غير مطمئن فيها ولا خاشع.
وللتبكير فوائد أخرى عظيمه منها:
أ- إدراك الصلاة في الصفوف الأولى.
ب- الظفر بدعاء الملائكة في حال الجلوس في المسجد؛ فقد قال رسول الله r: «الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه...» الحديث، رواه البخاري ومسلم([17]).
جـ- اكتساب الأجر العظيم بسبب التبكير إلى الصلاة؛ فقد قال رسول الله r: «.. لو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه» رواه مسلم ([18]).
والتهجير في اللغة معناه: التبكير إلى كل شيء، والمبادرة إليه، والمراد هنا: المبادرة إلى الصلاة([19]).
وقد بين النبي r تفاوت الأجر في التبكير إلى الصلاة يوم الجمعة بيانًا شافيًا، حيث قال r: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» رواه البخاري ومسلم([20]).
هكذا يسهل الله عز وجل سبل التقرب إليه سبحانه، ويجزي على ذلك الأجر العظيم، فله الحمد والمنة.
لكن بعض الناس يضيعون مثل هذه الفرص العظيمة لاكتساب الأجر، فلا يخرجون إلى الصلاة إلى بعد سماع الإقامة، وبعضهم يخرجون مبكرين، لكنهم لا يدخلون المسجد، بل يقفون خارجه يتجاذبون أطراف الحديث حتى تقام الصلاة، فيحرمون أنفسهم أجرًا عظيمًا، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
* * * *ثالثًا: الدخول إلى المسجد
1- إذا وصلت أخي المسلمإلى المسجد فقدم رجلك اليمنى([21])، واحرص على دعاء دخول المسجد فقل:
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك.
ثبت ذلك في عدة أحاديث عن النبي r([22]).
وكان رسول الله r يقول إذا دخل المسجد أيضًا: «أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم» رواه أبو داود ([23]).
2- ثم تقدم إلى الصفوف الأولى، واحرص على الصف الأول منها، على يمين الإمام([24])؛ لما في ذلك من الأجر العظيم عند الله عز وجل، وقد أرشدنا رسول الله r إلى ذلك بقوله: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه» رواه البخاري ومسلم([25]).
والعجب من بعض الناس الذين يفرطون في هذا الأجر العظيم، فتراهم يأتون إلى المسجد مبكرين ويجلسون في وسط المسجد أو في آخره، ويتركون الصفوف الأولى، وقد قال رسول الله r: «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها» رواه مسلم([26]).
وعن أبي سعيد الخدري t قال: رأى رسول الله r قومًا في مؤخر المسجد فقال لهم: «تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله» رواه مسلم([27]).
ويخشى على هؤلاء أن ينطبق عليهم قوله r: «لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار» رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها([28]).
وأكثر تفريطًا من هؤلاء الذين يجلسون للصلاة في الساحات الخارجية للمسجد الحرام والمسجد النبوي مع وجود الأماكن الفسيحة الخالية في داخلهما، فيفوتون على أنفسهم أجرًا عظيمًا، بل في صحة اقتدائهم بالإمام نظر عند بعض أهل العلم، ويتسببون في التضييق على الداخلين إلى المسجد وإيهامهم بأن المسجد ممتلئ.
3- فإذا دخلت المسجد فلا تجلس حتى تصلي ركعتين هما تحية المسجد؛ لقول رسول الله: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» رواه البخاري ومسلم([29]).
4- إذا صليت تحية المسجد فاشتغل بذكر الله عز وجل وقراءة القرآن، أو تعلم العلم النافع وتعليمه، لما في ذلك من الأجر العظيم، فقد روى الإمام مسلم عن عقبة بن عامر t قال: خرج رسول الله r ونحن في الصفة([30])، فقال: «أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو العقيق([31]) فيأتي منه بناقتين كوماوين([32])، في غير إثم ولا قطع رحم؟». فقلنا: يا رسول الله، نحب ذلك. قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل، خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل»([33]).
وعن أبي أمامة الباهلي t، عن النبي r قال: «من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرًا، أو يعلمه كان له كأجر حاج تامًا حجته».
قال المنذري: (رواه الطبراني في الكبير بإسناد لا بأس به)([34]).
5- اجتنب الكلام مع الناس فيما لا فائدة فيه([35])، واعلم أنك في حال جلوسك في المسجد تنتظر الصلاة فأنت في صلاة، أي: لك من الأجر والثواب كما لو أنك قائم تصلي، وأن الملائكة تدعوا لك وتستغفر لك، يقول رسول الله r: «الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة» رواه البخاري([36]).
وزاد في رواية أخرى: «ما لم يؤذ»([37]).
فلو استشعر الإنسان هذه المعاني لامتلأ قلبه بالإيمان، وانطلق لسانه بحمد الله وشكره على إحسانه وفضله، ولخضعت جوارحه حياء من الله عز وجل أن يصدر منها ما لا يرضاه.
6- فإذا أقيمت الصلاة فليحرص الجميع على تسوية الصفوف، وسد الفرج، وإكمال الصف الأول فالأول، قال رسول الله r: «سووا صفوفكم؛ فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة» رواه البخاري ومسلم([38]).
وروى البخاري عن أنس بن مالك t قال: «كان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه»([39]).
وروى مسلم عن جابر بن سمرة t قال: خرج علينا رسول الله r فقال: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟». فقلنا: يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: «يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف»([40]).
وقد حذر النبي r من الإخلال بتسوية الصفوف تحذيرًا شديدًا، فقال عليه الصلاة والسلام: «لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم» رواه البخاري ومسلم([41]).
وهذا وعيد شديد، لذلك فإن تسوية الصفوف واجب، والتفريط فيه حرام([42]).
فمن علم ذلك، عليه أن يكون قدوةً لإخوانه المسلمين، وعونًا لهم في تسوية الصفوف وإكمال الأول فالأول منها، وسد الفرج فيها، حتى لا تدع فرجة للشيطان يدخل منها بين الصفوف، وافتح أخي المسلم سمعك وبصرك وقلبك لهذه الكلمات الجامعة النافعة، الصادرة ممن وصفه الله عز وجل بأنه ]بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[، وكل كلامه كذلك بأبي هو وأمي r حيث قال: «أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله» رواه أبو دواد ([43]).
7- ولا يحملنك أخي المسلم ما تعلم من فضل الصلاة في الصف الأول على أن تتعدى على حق غيرك فيه، فربما تأتي متأخرًا «فتقفز» إلى الصف الأول غير مراع حق إخوانك الذين يجلسون في الصف الثاني، وهم يحرصون على الصلاة في الصف الأول مثل حرصك أو أشد، ولا يمنعهم من التقدم إليه إلا خوف التضييق على إخوانهم، ولا شك أن فعلك ذلك يؤذيهم ويوغر صدورهم، وقد يكتب عليك من الإثم أكثر مما تحصل عليه من الأجر.
وقس على نفسك لو فعل معك ذلك، وقد قال رسول الله r: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» رواه البخاري([44]).
ومن الناس من يأتي إلى الصف وهو مكتمل وليس فيه فرجة، فيدخل فيه عنوة، فيؤذي من على يمينه ويساره من المصلين، ويجعلهم في ضيق وعنت، ويشغلهم عن الخشوع في الصلاة.
فعلى المسلم الحريص على الخير أن يتجنب هذه الأفعال التي تعود عليه وعلى غيره بالضرر.
8- احرص أخي المسلم أن تكون صلاتك موافقة لما كان عليه رسول اللهr، امتثالاً لقوله r: «صلوا كما رأيتموني أصلي»([45]).
وقد يسر الله عز وجل لك ذلك حيث وفق بعض أهل العلم لتصنيف كتب مستقلة في كيفية صلاة النبي r، تعتمد على الدليل الصحيح، بأسلوب سهل، منها: «كيفية صلاة النبي r» للإمام العلامة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله، و «صفة صلاة النبي r من التكبير إلى التسليم كأنك تراها» للعلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، وقد اختصرها في رسالة صغيرة بعنوان «مختصر صفة صلاة النبي r»، وللعلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله رسالة صغيرة في ذلك، وغيرهم.
9- لا يستفزنك الشيطان بعد انقضاء الصلاة للخروج مباشرة من المسجد كما هو حال بعض الناس، فكم يفوت هؤلاء من الأجور العظيمة والحسنات الجزيلة بسبب استعجالهم؟! حيث يفرطون في الذكر الوارد بعد الصلاة.
وتأمل أخي المسلم في هذا التوجيه الحكيم من رسول الله r والحرص الشديد على الخير من صحابته الكرام y؛ لتدرك الفرق الشاسع والبون الواسع بين حرصهم وتفريطنا، ورغبتهم في الخير وزهدنا فيه، فقد روى الإمام مسلم من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة t: أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله r فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم. فقال: «وما ذاك؟» قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله r: «أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم وتسبقون من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟». قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة». قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله r فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله. فقال رسول الله r: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء»([46]).
وروى الإمام مسلم أيضًا عن أبي هريرة t، عن رسول الله r أنه قال: «من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبر الله ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر»([47]).
فانظر إلى هذا الفضل العظيم من الله عز وجل، فله الحمد والشكر على إحسانه.
وإذا علمت أن الذكر الوارد بعد الصلاة لا يأخذ من وقتك أكثر من ثلاث دقائق، تبين لك عظم خسارة من فرط فيه، فاحرص رعاك الله على هذه الأذكار – وغيرها – الثابتة عن النبي r تسعد في الدنيا والآخرة.
وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يوفقني وإياك لما يحبه ويرضاه، وأن يعيننا جميعًا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
([1])صحيح مسلم (1/464 رقم: 671).
([2])صحيح مسلم (1/378 رقم: 533).
([3])صحيح البخاري (1/9 رقم: 1)، وصحيح مسلم (3/1515 رقم: 1907).
([4])سنن أبي داود (1/320 رقم: 472)، وصحيح سنن أبي داود (رقم: 447).
([5]) صحيح البخاري (2/131 رقم: 647)، وصحيح مسلم (1/459 رقم: 649).
([6])المصدرين السابقين (2/143 رقم: 660)، (2/715 رقم: (1031).
([7])تفسير ابن كثير (2/210).
([8])صحيح مسلم (1/394 رقم: 561).
([9])المصدر السابق (1/395 رقم: 564).
([10])سنن الترمذي (5/490 رقم: 3426)، وصحيح سنن الترمذي (3/151 رقم: 2724)، وانظر الكلم الطيب لشيخ الإسلام ابن تيمية (رقم: 58).
([11])سنن أبي داود (5/327 رقم: 5094)، وسنن الترمذي (5/490 رقم: 3427)، وصحيح سنن أبي داود (3/959 رقم: 4248).
([12])التثويب معناه: إقامة الصلاة.
([13])صحيح مسلم (1/421 رقم: 602).
([14])صحيح مسلم (1/219 رقم: 251).
([15]) صحيح مسلم (1/422 رقم: 603).
([16])صحيح ابن خزيمة (1/229 رقم: 447)، ومستدرك الحاكم (1/206)، وإرواء الغليل للألباني (2/101).
([17])صحيح البخاري (2/142 رقم: 659)، وصحيح مسلم (1/459 رقم: 649).
([18]) صحيح مسلم (1/325 رقم: 437).
([19])انظر: النهاية لابن الأثير (5/246).
([20])صحيح البخاري (2/366 رقم: 881)، وصحيح مسلم (2/582 رقم: 850).
([21])انظر: صحيح البخاري (1/523 رقم: 426).
([22])انظر: صحيح مسلم (1/494 رقم: 713)، وسنن أبي داود (1/318
رقم: 465)، وسنن الترمذي (2/127 رقم: 314).
([23])سنن أبي داود (1/318 رقم: 466)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1/93 رقم: 441).
([24])انظر: فتح الباري لابن حجر (2/213).
([25])صحيح البخاري (2/139 رقم: 652)، وصحيح مسلم (1/325 رقم: 137).
([26])صحيح مسلم (1/326 رقم: 440).
([27])صحيح مسلم (1/325 رقم: 438).
([28])سنن أبي داود (1/438 رقم: 679)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1/132 رقم: 630).
([29])صحيح البخاري (3/48 رقم: 1163)، وصحيح مسلم (1/495 رقم: 714).
([30])الصفة: مكان كان في مؤخر المسجد النبوي مظلل، أعد لتزول الغرباء فيه، ممن لا مأوى له ولا أهل. انظر: وفاء الوفاء للسمهودي (2/453).
([31])بطحان والعقيق: واديان من أودية المدينة النبوية. (المصدر السابق 3/1068-1071).
([32])الناقة الكوماء أي: مشرفة السنام عاليته. (النهاية لابن الأثير 4/211).
([33])صحيح مسلم (1/255 رقم: 803).
([34])الترغيب والترهيب (1/104)، وهو في المعجم الكبير للطبراني (8/111) رقم: 7473)، وذكره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/38 رقم: 82).
([35])ومن ذلك الكلام في الهاتف (الجوال) إلى لضرورة ملحة، بل ينبغي لمن يحمل ذلك الجهاز أن يغلقه قبل دخول المسجد؛ لما يسببه من إزعاج للمصلين، لا سيما في أثناء الصلاة.
([36])صحيح البخاري (2/142 رقم: 659).
([37])صحيح البخاري (1/564 رقم: 477).
([38])صحيح البخاري (2/209 رقم: 723)، وصحيح مسلم (1/324 رقم: 433).
([39])صحيح البخاري (2/211 رقم: 725).
([40])صحيح مسلم (1/322 رقم: 430).
([41])صحيح البخاري (2/207 رقم: 717)، وصحيح مسلم (1/324 رقم: 436).
([42])انظر: فح الباري للحافظ ابن حجر (2/207).
([43])سنن أبي داود (1/433 رقم: 666)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1/131 رقم: 620).
([44])صحيح البخاري (1/57 رقم: 13).
([45])رواه البخاري في صحيحه (2/111 رقم: 631).
([46])صحيح مسلم (1/416 رقم: 595).
([47])المصدر السابق (1/418 رقم: 597).
الموضوع الأصلي :
المشي إلى المساجد آداب وآثار المصدر :
عالم العرب الكاتب:admin