ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
مفاتيح كل مغلق وشفاء كل داء
إن هذه البشرية - وهي من صنع اللّه - لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع اللّه ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده - سبحانه - وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق،وشفاء كل داء:«وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
«إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» ..ولكن هذه البشرية لا تريد أن ترد القفل إلى صانعه،ولا أن تذهب بالمريض إلى مبدعه،ولا تسلك في أمر نفسها،وفي أمر إنسانيتها،وفي أمر سعادتها أو شقوتها ..ما تعودت أن تسلكه في أمر الأجهزة والآلات المادية الزهيدة التي تستخدمها في حاجاتها اليومية الصغيرة ..وهي تعلم أنها تستدعي لإصلاح الجهاز مهندس المصنع الذي صنع الجهاز.
ولكنها لا تطبق هذه القاعدة على الإنسان نفسه،فترده إلى المصنع الذي منه خرج،ولا أن تستفتي المبدع الذي أنشأ هذا الجهاز العجيب،الجهاز الإنساني العظيم الكريم الدقيق اللطيف،الذي لا يعلم مساربه ومداخله إلا الذي أبدعه وأنشأه:«إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟» ..
ومن هنا جاءت الشقوة للبشرية الضالة.البشرية المسكينة الحائرة،البشرية التي لن تجد الرشد،ولن تجد الهدى،ولن تجد الراحة،ولن تجد السعادة،إلا حين ترد الفطرة البشرية إلى صانعها الكبير،كما ترد الجهاز الزهيد إلى صانعه الصغير!
ولقد كانت تنحية الإسلام عن قيادة البشرية حدثا هائلا في تاريخها،ونكبة قاصمة في حياتها،نكبة لم تعرف لها البشرية نظيرا في كل ما ألم بها من نكبات
لقد كان الإسلام قد تسلم القيادة بعد ما فسدت الأرض،وأسنت الحياة،وتعفنت القيادات،وذاقت البشرية الويلات من القيادات المتعفنة و«ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ»
تسلم الإسلام القيادة بهذا القرآن،وبالتصور الجديد الذي جاء به القرآن،وبالشريعة المستمدة من هذا التصور ..فكان ذلك مولدا جديدا للإنسان أعظم في حقيقته من المولد الذي كانت به نشأته.لقد أنشأ هذا القرآن للبشرية تصورا جديدا عن الوجود والحياة والقيم والنظم كما حقق لها واقعا اجتماعيا فريدا،كان يعز على خيالها تصوره مجرد تصور،قبل أن ينشئه لها القرآن إنشاء ..نعم! لقد كان هذا الواقع من النظافة والجمال،والعظمة والارتفاع،والبساطة واليسر،والواقعية والإيجابية،والتوازن والتناسق ...بحيث لا يخطر للبشرية على بال،لولا أن اللّه أراده لها،وحققه في حياتها ..في ظلال القرآن،ومنهج القرآن،وشريعة القرآن.
ثم وقعت تلك النكبة القاصمة ونحي الإسلام عن القيادة.نحي عنها لتتولاها الجاهلية مرة أخرى،في صورة من صورها الكثيرة.صورة التفكير المادي الذي تتعاجب به البشرية اليوم،كما يتعاجب الأطفال بالثوب المبرقش واللعبة الزاهية الألوان!
إن هناك عصابة من المضللين الخادعين أعداء البشرية.يضعون لها المنهج الإلهي في كفة والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى ثم يقولون لها:اختاري!!!
اختاري إما المنهج الإلهي في الحياة والتخلي عن كل ما أبدعته يد الإنسان في عالم المادة،وإما الأخذ بثمار المعرفة الإنسانية والتخلي عن منهج اللّه!!!
وهذا خداع لئيم خبيث.فوضع المسألة ليس هكذا أبدا ..إن المنهج الإلهي ليس عدوا للإبداع الإنساني.إنما هو منشئ لهذا الإبداع وموجه له الوجهة الصحيحة ..ذلك كي ينهض الإنسان بمقام الخلافة في الأرض.هذا المقام الذي منحه اللّه له،وأقدره عليه،ووهبه من الطاقات المكنونة ما يكافىء الواجب المفروض عليه فيه وسخر له من القوانين الكونية ما يعينه على تحقيقه ونسق بين تكوينه وتكوين هذا الكون ليملك الحياة والعمل والإبداع ..
على أن يكون الإبداع نفسه عبادة للّه،ووسيلة من وسائل شكره على آلائه العظام،والتقيد بشرطه في عقد الخلافة وهو أن يعمل ويتحرك في نطاق ما يرضي اللّه.فأما أولئك الذين يضعون المنهج الإلهي في كفة،والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى ..فهم سيئو النية،شريرون،يطاردون البشرية المتعبة الحائرة كلما تعبت من التيه والحيرة والضلال،وهمت أن تسمع لصوت الحادي الناصح،وأن تؤوب من المتاهة المهلكة،وأن تطمئن إلى كنف اللّه ...
وهنالك آخرون لا ينقصهم حسن النية ولكن ينقصهم الوعي الشامل،والإدراك العميق ..
هؤلاء يبهرهم ما كشفه الإنسان من القوى والقوانين الطبيعية،وتروعهم انتصارات الإنسان في عالم المادة.فيفصل ذلك البهر وهذه الروعة في شعورهم بين القوى الطبيعية والقيم الإيمانية،وعملها وأثرها الواقعي في الكون وفي واقع الحياة ويجعلون للقوانين الطبيعة مجالا،وللقيم الإيمانية مجالا آخر ويحسبون أن القوانين الطبيعية تسير في طريقها غير متأثرة بالقيم الإيمانية،وتعطي نتائجها سواء آمن الناس أم كفروا.اتبعوا منهج اللّه أم خالفوا عنه.حكموا بشريعة اللّه أم بأهواء الناس!
هذا وهم ..إنه فصل بين نوعين من السنن الإلهية هما في حقيقتهما غير منفصلين.
فهذه القيم الإيمانية هي بعض سنن اللّه في الكون كالقوانين الطبيعية سواء بسواء.ونتائجها مرتبطة ومتداخلة ولا مبرر للفصل بينهما في حس المؤمن وفي تصوره ..وهذا هو التصور الصحيح الذي ينشئه القرآن في النفس حين تعيش في ظلال القرآن.ينشئه وهو يتحدث عن أهل الكتب السابقة وانحرافهم عنها وأثر هذا الانحراف في نهاية المطاف:«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ.وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ».وينشئه وهو يتحدث عن وعد نوح لقومه:«فَقُلْتُ:اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً،وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ،وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً» ..وينشئه وهو يربط بين الواقع النفسي للناس والواقع الخارجي الذي يفعله اللّه بهم:«إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ».
إن الإيمان باللّه،وعبادته على استقامة،وإقرار شريعته في الأرض ...كلها إنفاذ لسنن اللّه.
وهي سنن ذات فاعلية إيجابية،نابعة من ذات المنبع الذي تنبثق منه سائر السنن الكونية التي نرى آثارها الواقعية بالحس والاختبار.
ولقد تأخذنا في بعض الأحيان مظاهر خادعة لافتراق السنن الكونية،حين نرى أن اتباع القوانين الطبيعية يؤدي إلى النجاح مع مخالفة القيم الإيمانية ..هذا الافتراق قد لا تظهر نتائجه في أول الطريق ولكنها تظهر حتما في نهايته ..وهذا ما وقع للمجتمع الإسلامي نفسه.لقد بدأ خط صعوده من نقطة التقاء القوانين الطبيعية في حياته مع القيم الإيمانية.وبدأ خط هبوطه من نقطة افتراقهما.وظل يهبط ويهبط كلما انفرجت زاوية الافتراق حتى وصل إلى الحضيض عند ما أهمل السنن الطبيعية والقيم الإيمانية جميعا ..
وفي الطرف الآخر تقف الحضارة المادية اليوم.تقف كالطائر الذي يرف بجناح واحد جبار،بينما جناحه الآخر مهيض،فيرتقي في الإبداع المادي بقدر ما يرتكس في المعنى الإنساني ويعاني من القلق والحيرة والأمراض النفسية والعصبية ما يصرخ منه العقلاء هناك ..لولا أنهم لا يهتدون إلى منهج اللّه،وهو وحده العلاج والدواء.
إن شريعة اللّه للناس هي طرف من قانونه الكلي في الكون.فإنفاذ هذه الشريعة لا بد أن يكون له أثر إيجابي في التنسيق بين سيرة الناس وسيرة الكون ..والشريعة إن هي إلا ثمرة الإيمان لا تقوم وحدها بغير أصلها الكبير.فهي موضوعة لتنفذ في مجتمع مسلم،كما أنها موضوعة لتساهم في بناء المجتمع المسلم.وهي متكاملة مع التصور الإسلامي كله للوجود الكبير وللوجود الإنساني،ومع ما ينشئه هذا التصور من تقوى في الضمير،ونظافة في الشعور،وضخامة في الاهتمامات،ورفعة في الخلق،واستقامة في السلوك ...وهكذا يبدو التكامل والتناسق بين سنن اللّه كلها سواء ما نسميه القوانين الطبيعية وما نسميه القيم الإيمانية ..فكلها أطراف من سنة اللّه الشاملة لهذا الوجود.
والإنسان كذلك قوة من قوى الوجود.وعمله وإرادته،وإيمانه وصلاحه،وعبادته ونشاطه ....هي كذلك قوى ذات آثار إيجابية في هذا الوجود وهي مرتبطة بسنة اللّه الشاملة للوجود ..وكلها تعمل متناسقة،وتعطي ثمارها كاملة حين تتجمع وتتناسق بينما تفسد آثارها وتضطرب،وتفسد الحياة معها،وتنتشر الشقوة بين الناس والتعاسة حين تفترق وتتصادم:«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» ..فالارتباط قائم وثيق بين عمل الإنسان وشعوره وبين ماجريات الأحداث في نطاق السنة الإلهية الشاملة للجميع.ولا يوحي بتمزيق هذا الارتباط،ولا يدعو إلى الإخلال بهذا التناسق،ولا يحول بين الناس وسنة اللّه الجارية،إلا عدو للبشرية يطاردها دون الهدى وينبغي لها أن تطارده،وتقصيه من طريقها إلى ربها الكريم ..
وقال تعالى:{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا }
[الإسراء:9]
..هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم،فيشمل الهدى أقواما وأجيالا بلا حدود من زمان أو مكان ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق،وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان.
يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور،بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض،والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة،وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء،وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق.
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه،وبين مشاعره وسلوكه،وبين عقيدته وعمله،فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم،متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض،وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى اللّه،ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة.
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة،فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء.ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار.ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض:أفرادا وأزواجا،وحكومات وشعوبا،ودولا وأجناسا،ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى ولا تميل مع المودة والشنآن ولا تصرفها المصالح والأغراض.الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه،وهو أعلم بمن خلق،وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل،فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان.
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها،وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام.
« إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» ..«وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً،وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» فهذه هي قاعدته الأصيلة في العمل والجزاء.فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه.فلا إيمان بلا عمل،ولا عمل بلا إيمان.الأول مبتور لم يبلغ تمامه،والثاني مقطوع لاركيزة له.وبهما معا تسير الحياة على التي هي أقوم ..وبهما معا تتحقق الهداية بهذا القرآن.
فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن،فهم متروكون لهوى الإنسان.الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه وما يضره،المندفع الذي لا يضبط انفعالاته ولو كان من ورائها الشر له:«وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا» ..
ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها.ولقد يفعل الفعل وهو شر،ويعجل به على نفسه وهو لا يدري.أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه ..فأين هذا من هدى القرآن الثابت الهادئ الهادي؟
ألا إنهما طريقان مختلفان:شتان شتان.هدى القرآن وهو الإنسان!
الموضوع الأصلي :
مفاتيح كل مغلق وشفاء كل داء المصدر :
عالم العرب الكاتب:alo 3mran